الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الْغُسْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الغسل) كذا في روايتنا بتقديم البسملة. وللأكثر بالعكس، وقد تقدم توجيهه ذلك، وحذفت البسملة من رواية الأصيلي وعنده " باب الغسل " وهو يضم الغين اسم للاغتسال، وقيل إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح حكاه ابن سيده وغيره، وقيل المصدر بالفتح والاغتسال بالضم، وقيل الغسل بالفتح فعل المغتسل وبالضم الماء الذي يغتسل به وبالكسر ما يجعل مع الماء كالأشنان. وحقيقة الغسل جريان الماء على الأعضاء. واختلف في وجوب الدلك فلم يوجبه الأكثر، ونقل عن مالك والمزني وجوبه، واحتج ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها قال: فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما. وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار فبطل الإجماع وانتفت الملازمة. قوله: (وقول الله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا) قال الكرماني: غرضه بيان أن وجوب الغسل على الجنب مستفاد من القرآن. قلت: وقدم الآية التي من سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة، وهي أن لفظ التي في المائدة (فاطهروا) ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء (حتى تغتسلوا) ففيها تصريح بالاغتسال وبيان للتطهير المذكور، ودل على أن المراد بقوله تعالى (فاطهروا) فاغتسلوا قوله تعالى في الحائض *3* الشرح: قوله: (باب الوضوء قبل الغسل) أي استحبابه. قال الشافعي رحمه الله في الأم: فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء، فكيفما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه. والاختيار في الغسل ما روت عائشة. ثم روى حديث الباب عن مالك بسنده، وهو في الموطأ كذلك، قال ابن عبد البر هو من أحسن حديث روى في ذلك. قلت: وقد رواه عن هشام وهو ابن عروة جماعة من الحفاظ غير مالك كما سنشير إليه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ الشرح: قوله: (كان إذا اغتسل) أي شرع في الفعل، و " من " في قوله " من الجنابة " سببية. قوله: (بدأ فغسل يديه) يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر، وسيأتي في حديث ميمونة تقوية ذلك. ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام " قبل أن يدخلهما في الإناء " رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضا " ثم يغسل فرجه"، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية، ولأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام، وهي زيادة جليلة، لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل. قوله: (كما يتوضأ صلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى، وإلى هذا جنح الداودي شارح المختصر من الشافعية فقال: يقدم غسل أعضاء وضوئه على ترتيب الوضوء، لكن بنية غسل الجنابة. ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث. قوله: (فيخلل بها) أي بأصابعه التي أدخلها في الماء. ولمسلم " ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر " وللترمذي والنسائي من طريق أبي عيينة " ثم يشرب شعره الماء". قوله: (أصول الشعر) وللكشميهني " أصول شعره " أي شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي " يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك " وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر الجسد في الغسل إما لعموم قوله " أصول الشعر " وإما بالقياس على شعر الرأس. وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء، وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به. ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر ملبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. والله أعلم. قوله: (ثم يدخل) إنما ذكره بلفظ المضارع، وما قبله مذكور بلفظ الماضي - وهو الأصل - لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين. قوله: (ثلاث غرف) بضم المعجمة وفتح الراء جمع غرفة وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وللكشميهني " ثلاث غرفات " وهو المشهور في جمع القلة. وفيه استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما تفرد به الماوردي فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل. قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح الفروع وكذا قال القرطبي، وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة الآتية قريبا فإن مقتضاها أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، وسيأتي في آخر الكلام على حديث ميمونة زيادة في هذه المسألة. قوله: (ثم يفيض) أي يسيل، والإفاضة الإسالة. واستدل به من لم يشترط الدلك وهو ظاهر. وقال المازري: لا حجة فيه لأن أفاض بمعنى غسل، والخلاف في الغسل قائم. قلت: ولا يخفى ما فيه والله أعلم. وقال القاضي عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار. قلت: بل ورد ذلك من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة. الحديث وفيه " ثم يتمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ثم يفيض على رأسه ثلاثا". قوله: (على جلده كله) هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعدما تقدم، وهو يؤيد الاحتمال الأول أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل، وعلى هذا فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثا وإلا فسنة الغسل، واستدل بهذا الحديث على استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل، ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر من قولها " كما يتوضأ للصلاة " وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه، لكن رواه مسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره " ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه " وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام، قال البيهقي هي غربية صحيحة. قلت: لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال، نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي فذكر حديث الغسل كما تقدم عند النسائي وزاد في آخره " فإذا فرغ غسل رجليه " فأما أن تحمل الروايات عن عائشة على أن المراد بقولها " وضوءه للصلاة " أي أكثره وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على ظاهره، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله في رواية أبي معاوية " ثم غسل رجليه " أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق قوله في حديث الباب " ثم يفيض على جلده كله". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْأَذَى ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا هَذِهِ غُسْلُهُ مِنْ الْجَنَابَةِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، وجزم الكرماني بأن محمد ابن يوسف هو البيكندي وسفيان هو ابن عيينة، ولا أدري من أين له ذلك. قوله: (وضوءه للصلاة غير رجليه) يه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل الخ وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز كما تقدم وإما بحمله على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل، وعن مالك إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان، قال النووي أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه، قال: لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك. انتهى. كذا قال، وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة كرواية " توضأ وضوءه للصلاة " أو ظاهرة تأخيرهما كرواية أبي معاوية المتقدمة، وشاهدها من طريق أبي سلمة، ويوافقها أكثر الروايات عن ميمونة، أو صريحة في تأخيرهما كحديث الباب، وراويها مقدم في الحفظ والفقه على جميع من رواه عن الأعمش، وقول من قال " إنما فعل ذلك مرة لبيان الجواز " متعقب، فإن في رواية أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش ما يدل على المواظبة، ولفظه " كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه " فذكر الحديث وفي آخره " ثم يتنحى فيغسل رجليه " قال القرطبي: الحكمة في تأخير غسل الرجلين ليحصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء. قوله: (وغسل فرجه) يه تقديم وتأخير، لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند المصنف في باب الستر في الغسل، فذكر أولا غسل اليدين ثم غسل الفرج ثم مسح يده بالحائط ثم الوضوء غير رجليه، وأتى بثم الدالة على الترتيب في جميع ذلك. قوله: (هذه غسلة) الإشارة إلى الأفعال المذكورة، أو التقدير هذه صفة غسله، وللكشميهني " هذا غسله " وهو ظاهر، وأشار الإسماعيلي إلى أن هذه الجملة الأخيرة مدرجة من قول سالم بن أبي الجعد، وأن زائدة بن قدامة بين ذلك في روايته عن الأعمش، واستدل البخاري بحديث ميمونة هذا على جواز تفريق الوضوء وعلى استحباب الإفراغ باليمين على الشمال للمغترف من الماء لقوله في رواية أبي عوانة وحفص وغيرهما " ثم أفرغ بيمينه على شماله " وعلى مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لقوله فيها " ثم تمضمض واستنشق " وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما، وتعقب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك قاله ابن دقيق العيد: وعلى استحباب مسح اليد بالتراب من الحائط أو الأرض لقوله في الروايات المذكورة " ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط " قال ابن دقيق العيد: وقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة لإزالة النجاسة والغسل من الجنابة لأن الأصل عدم التكرار، وفيه خلاف. انتهى. وصحح النووي وغيره أنه يجزئ، لكن لم يتعين في هذا الحديث أن ذلك كان لإزالة النجاسة، بل يحتمل أن يكون للتنظيف فلا يدل على الاكتفاء، وأما دلك اليد بالأرض فللمبالغة فيه ليكون أنقى كما قال البخاري. وأبعد من استدل به على نجاسة المني أو على نجاسة رطوبة الفرج لأن الغسل ليس مقصورا على إزالة النجاسة. وقوله في حديث الباب " وما أصابه من أذى " ليس بظاهر في النجاسة أيضا، واستدل به البخاري أيضا على أن الواجب في غسل الجنابة مرة واحدة، وعلى أن من توضأ بنية الغسل أكمل باقي أعضاء بدنه لا يشرع له تجديد الوضوء من غير حدث، وعلى جواز نفض اليدين من ماء الغسل وكذا الوضوء، وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره ولفظه " لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مرواح الشيطان " وقال ابن الصلاح: لم أجده. وتبعه النووي. وقد أخرجه ابن حبان في الضعفاء وابن حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا أن يحتج به. وعلى استحباب التستر في الغسل ولو كان في البيت، وقد عقد المصنف لكل مسألة بابا وأخرج هذا الحديث فيه بمغايرة الطرق ومدارها على الأعمش، وعند بعض الرواة عنه ما ليس عند الآخر، وقد جمعت فوائدها في هذا الباب. وصرح في رواية حفص بن غياث عن الأعمش بسماع الأعمش من سالم فأمن تدليسه. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين على الولاء: الأعمش وسالم وكريب، وصحابيان: ابن عباس وخالته ميمونة بنت الحارث. وفي الحديث من الفوائد أيضا جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل والوضوء لقولها في رواية حفص وغيره " وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا " وفي رواية عبد الواحد " ما يغتسل به " وفيه خدمة الزوجات لأزواجهن، وفيه الصب باليمين على الشمال لغسل الفرج بها، وفيه تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء وفيهما ما لعله يستقذر، فأما إذا كان الماء في إبريق مثلا فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء، ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس بل يكتفي عنه بغسله، واستدل بعضهم بقولها في رواية أبي حمزة وغيره " فناولته ثوبا فلم يأخذه " على كراهة التنشيف بعد الغسل، ولا حجة فيه لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلا، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي من رواية أبي عوانة في هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشيف، لأن كلا منهما إزالة. وقال النووي: اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه أشهرها أن المستحب تركه، وقيل مكروه، وقيل مباح، وقيل مستحب، وقيل مكروه في الصيف مباح في الشتاء. واستدل به على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر خلافا لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته. *3* الشرح: قوله: (باب غسل الرجل مع امرأته. عن عروة) أي ابن الزبير كذا رواه أكثر أصحاب الزهري، وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي، ورجح أبو زرعة الأول. ويحتمل أن يكون للزهري شيخان فإن الحديث محفوظ عن عروة والقاسم من طرق أخرى. قوله: (أنا والنبي) يحتمل أن يكون مفعولا معه ويحتمل أن يكون عطفا على الضمير وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. قوله: (من إناء واحد من قدح) من الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، ويحتمل أن يكون قدح بدلا من إناء بتكرار حرف الجر. وقال ابن التين: كان هذا الإناء من شبه، وهو بفتح المعجمة والموحدة كما تقدم توضيحه في صفة الوضوء من حديث عبد الله بن زيد، وكأن مستنده ما رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه " تور من شبه". قوله: (يقال له الفرق) ، ولمالك عن الزهري: هو الفرق، وزاد في روايته " من الجنابة " أي بسبب الجنابة، ولأبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب " وذلك القدح يومئذ يدعي الفرق " قال ابن التين: الفرق بتسكين الراء ورويناه بفتحها وجوز بعضهم الأمرين. وقال القتيبي وغيره هو بالفتح. وقال النووي الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب قال: وليس كما قال، بل هما لغتان. قلت: لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره: الفرق بالفتح والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى. وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو الفتح والله أعلم. وحكى ابن الأثير أن الفرق بالفتح ستة عشر رطلا وبالإسكان مائة وعشرون رطلا، وهو غريب. وأما مقداره فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا الحديث قال سفيان يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير، وقيل الفرق صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا ولعله يريد اتفاق أهل اللغة وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بما روى عن مجاهد في الحديث الآتي عن عائشة أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول، فإن الحزر لا يعارض به التحديد. وأيضا فلم صرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ " قدر ستة أقساط " والقسط بكسر القاف وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع والاختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية فقال الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف. ومباحث المتن تقدمت في باب وضوء الرجل مع امرأته، واستدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته فقال سالت عطاء فقال سألت عائشة فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ الشرح: قوله: (عن عروة) أي ابن الزبير كذا رواه أكثر أصحاب الزهري، وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي، ورجح أبو زرعة الأول. ويحتمل أن يكون للزهري شيخان فإن الحديث محفوظ عن عروة والقاسم من طرق أخرى. قوله: (أنا والنبي) يحتمل أن يكون مفعولا معه ويحتمل أن يكون عطفا على الضمير وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. قوله: (من إناء واحد من قدح) من الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، ويحتمل أن يكون قدح بدلا من إناء بتكرار حرف الجر. وقال ابن التين: كان هذا الإناء من شبه، وهو بفتح المعجمة والموحدة كما تقدم توضيحه في صفة الوضوء من حديث عبد الله بن زيد، وكأن مستنده ما رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه ولفظه " تور من شبه". قوله: (يقال له الفرق) ، ولمالك عن الزهري: هو الفرق، وزاد في روايته " من الجنابة " أي بسبب الجنابة، ولأبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب " وذلك القدح يومئذ يدعي الفرق " قال ابن التين: الفرق بتسكين الراء ورويناه بفتحها وجوز بعضهم الأمرين. وقال القتيبي وغيره هو بالفتح. وقال النووي الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب قال: وليس كما قال، بل هما لغتان. قلت: لعل مستند الباجي ما حكاه الأزهري عن ثعلب وغيره: الفرق بالفتح والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح. انتهى. وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة، والذي في روايتنا هو الفتح والله أعلم. وحكى ابن الأثير أن الفرق بالفتح ستة عشر رطلا وبالإسكان مائة وعشرون رطلا، وهو غريب. وأما مقداره فعند مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا الحديث قال سفيان يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير، وقيل الفرق صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا ولعله يريد اتفاق أهل اللغة وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بما روى عن مجاهد في الحديث الآتي عن عائشة أنه حزر الإناء ثمانية أرطال، والصحيح الأول، فإن الحزر لا يعارض به التحديد. وأيضا فلم صرح مجاهد بأن الإناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ " قدر ستة أقساط " والقسط بكسر القاف وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع والاختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية فقال الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث، وهو ضعيف. ومباحث المتن تقدمت في باب وضوء الرجل مع امرأته، واستدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته فقال سالت عطاء فقال سألت عائشة فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب الغسل بالصاع) أي بملء الصاع (ونحوه) أي ما يقاربه، والصاع تقدم أنه خمسة أرطال وثلث برطل بغداد، وهو على ما قال الرافعي وغيره مائة وثلاثون درهما، ورجح النووي أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. وقد بين الشيخ الموفق سبب الخلاف في ذلك فقال: إنه في الأصل مائه وثمانية وعشرين وأربعة أسباع، ثم زادوا فيه مثقالا لإرادة جبر الكسر فصار مائة وثلاثين، قال: والعمل على الأول لأنه هو الذي كان موجودا وقت تقدير العلماء به. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ دَخَلْتُ أَنَا وَأَخُو عَائِشَةَ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْوًا مِنْ صَاعٍ فَاغْتَسَلَتْ وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَبَهْزٌ وَالْجُدِّيُّ عَنْ شُعْبَةَ قَدْرِ صَاعٍ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث، وأبو بكر بن حفص أي ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص، شارك شيخه أبا سلمة - وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - في كونه زهريا مدنيا مشهورا بالكنية، وقد قيل إن اسم كل منهما عبد الله. قوله: (وأخو عائشة) زعم الداودي أنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وقال غيره هو أخوها لأمها وهو الطفيل بن عبد الله ولا يصح واحد منهما، لما روى مسلم من طريق معاذ، والنسائي من طريق خالد بن الحارث، وأبو عوانة من طريق يزيد بن هارون كلهم عن شعبة في هذا الحديث أنه أخوها من الرضاعة. وقال النووي وجماعة إنه عبد الله بن يزيد، معتمدين على ما وقع في صحيح مسلم في الجنائز عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عنها فذكر حديثا غير هذا، ولم يتعين عندي أنه المراد هنا لأن لها أخا آخر من الرضاعة وهو كثير بن عبيد رضيع عائشة روى عنها أيضا وحديثه في الأدب المفرد للبخاري وسنن أبي داود من طريق ابنه سعيد بن كثير عنه. وعبد الله بن يزيد بصري، كثير بن عبيد كوفي، فيحتمل أن يكون المبهم هنا أحدهما ويحتمل أن يكون غيرهما والله أعلم. قوله: (فدعت بإناء نحو) بالجر والتنوين صفة لإناء. وفي رواية كريمة " نحوا " بالنصب على أنه نعت للمجرور باعتبار المحل أو بإضمار أعني. قوله: (وبيننا وبينها حجاب) قال القاضي عياض: ظاهره أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمحرم لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع أرضعته أختها أم كلثوم، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه قال: وإلا لم يكن لاغتسالها بحضرتهما معنى. وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل لأنه أوقع في النفس، ولما كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا: أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. قوله: (قال أبو عبد الله) أي البخاري المصنف (قال يزيد بن هارون) هذا التعليق وصله أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما. قوله: (وبهز) بالزاي المعجمة هو ابن أسد وحديثه موصول عند الإسماعيلي، وزاد في روايتهما " من الجنابة"، وعندهما أيضا " على رأسها ثلاثا " وكذا عند مسلم والنسائي. قوله: (والجدي) بضم الجيم وتشديد الدال نسبة إلى جدة ساحل مكة، وكان أصله منها لكنه سكن البصرة. قوله: (قدر صاع) بالكسر على الحكاية، ويجوز النصب كما تقدم. والمراد من الروايتين أن الاغتسال وقع بملء الصاع من الماء تقريبا لا تحديدا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ فَقَالَ يَكْفِيكَ صَاعٌ فَقَالَ رَجُلٌ مَا يَكْفِينِي فَقَالَ جَابِرٌ كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا وَخَيْرٌ مِنْكَ ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي. قوله: (حدثنا يحيى بن آدم) قال أبو علي الحياني: ثبت لجميع الرواة - إلا لأبي ذر عن الحموي فسقط من روايته يحيى بن آدم، وهو وهم - فلا يتصل السند إلا به. قوله: (زهير) هو ابن معاوية، وأبو إسحاق هو السبيعي، وأبو جعفر هو محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر. قوله: (هو وأبوه) أي على بن الحسين (وعنده) أي عند جابر. قوله: (قوم) كذا في النسخ التي وقفت عليها من البخاري، ووقع في العمدة " وعنده قومه " بزيادة الهاء وجعلها شراحها ضميرا يعود على جابر وفيه ما فيه، وليست هذه الرواية في مسلم أصلا، وذلك وارد أيضا على قوله إنه يخرج المتفق عليه. قوله: (فسألوه عن الغسل) أفاد إسحاق بن راهويه في مسنده أن متولي السؤال هو أبو جعفر الراوي، فأخرج من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال " سألت جابرا عن غسل الجنابة"، وبين النسائي في روايته سبب السؤال فأخرج من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي جعفر قال " تمارينا في الغسل عند جابر، فكان أبو جعفر تولى السؤال " ونسب السؤال في هذه الرواية إلى الجميع مجازا لقصدهم ذلك، ولهذا أفرد جابر الجواب فقال " يكفيك " وهو بفتح أوله، وسيأتي مزيد لهذا الموضع في الباب الذي يليه. قوله: (فقال رجل) زاد الإسماعيلي " منهم " أي من القوم، وهذا يؤيد ما ثبت في روايتنا لأن هذا القائل هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب الذي يعرف أبوه بابن الحنفية كما جزم به صاحب العمدة، وليس هو من قوم جابر لأنه هاشمي وجابر أنصاري. قوله: (أوفي) يحتمل الصفة والمقدار أي أطول وأكثر. قوله: (وخير منك) بالرفع عطفا على أوفى المخبر به عن هو. وفي رواية الأصيلي " أو خيرا " بالنصب عطفا على الموصول. قوله: (ثم أمنا) فاعل أمنا هو جابر كما سيأتي ذلك واضحا من فعله في كتاب الصلاة، ولا التفات إلى من جعله من مقوله والفاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد إلى ذلك، وفيه جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الراد إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك، وفيه كراهية التنطع والإسراف في الماء. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَخِيرًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الشرح: قوله: (عن عمرو) هو ابن دينار، وفي مسند الحميدي " حدثنا سفيان أخبرنا عمرو أخبرنا أبو الشعثاء " وهو جابر بن زيد المذكور. قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف. قوله: (كان ابن عيينة) كذا رواه عنه أكثر الرواة وإنما رواه عنه كما قال أبو نعيم من سمع منه قديما، وإنما رجح البخاري رواية أبي نعيم جريا على قاعدة المحدثين، لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهة أخرى من وجوه الترجيح وهي كونهم أكثر عددا وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى وهو كون ابن عباس لا يطلع على النبي صلى الله عليه وسلم في حالة اغتساله مع ميمونة فيدل على أنه أخذه عنها. وقد أخرج الرواية المذكورة الشافعي والحميدي وابن أبي عمر وابن أبي شيبة وغيرهم في مسانيدهم عن سفيان، ومسلم والنسائي وغيرهما من طريقه، ويستفاد من هذا البحث أن البخاري لا يري التسوية بين " عن فلان " وبين " إن فلانا " في ذلك بحث يطول ذكره " وقد حققته فيما كتبته على كتاب ابن الصلاح. وادعى بعض الشارحين أن حديث ميمونة هذا لا مناسبة له بالترجمة لأنه لم يذكر فيه قدر الإناء، والجواب أن ذلك يستفاد من مقدمة أخرى، وهي أن أوانيهم كانت صغارا كما صرح به الشافعي في عدة مواضع، فيدخل هذا الحديث تحت قوله " ونحوه " أي نحو الصاع، أو يحمل المطلق فيه على المقيد في حديث عائشة وهو الفرق، لكون كل منهما زوجة له واغتسلت معه، فتكون حصة كل منهما أزيد من صاع، فيدخل تحت الترجمة بالتقريب، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) تقدم حديث ميمونة وعائشة في ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا الشرح: قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي وقد علا عنه في هذا الإسناد، ونزل في الباب الذي قبله، وأبو إسحاق هو السبيعي أيضا، وسليمان بن صرد خراعي وهو من أفاضل الصحابة، وأبوه بضم المهملة وفتح الراء وشيخه من مشاهير الصحابة، ففيه رواية الأقران. قوله: (أما أنا فأفيض) بضم الهمزة، وقسيم " أما " محذوف، وقد ذكر أبو نعيم في المستخرج سببه من هذا الوجه وأوله عنده " ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة " فذكره، ولمسلم من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق " تماروا في الغسل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: أما أنا فاغسل رأسي بكذا وكذا " فذكر الحديث، وهذا هو القسيم المحذوف، ودل قوله " ثلاثا " على أن المراد بكذا وكذا أكثر من ذلك، ولمسلم من وجه آخر أن الذين سألوا عن ذلك هم وفد ثقيف، والسياق مشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يفيض إلا ثلاثا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، ومحتملة لأن تكون للتوزيع على جميع البدن، لكن حديث جابر في آخر الباب يقوي الاحتمال الأول وسنذكر ما فيه. قوله: (كلتيهما) كذا للأكثر، وللكشميهني " كلاهما " وحكى ابن التين أن في بعض الروايات " كلتاهما " وهي مخرجة على من يراها تثنية ويرى أن التثنية لا تتغير كقوله: قد بلغا في المجد غايتاها. وهكذا القول في رواية الكشميهني، وهو مذهب الفراء في " كلا " خلافا للبصريين، ويمكن أن يخرج الرفع فيهما على القطع. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مِخْوَلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْرِغُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا الشرح: قوله: (حدثني) وللأصيلي حدثنا (محمد بن بشار) هو بندار كما صرح به الإسماعيلي في روايته حيث أخرجه عن الحسن بن سفيان وغيره عنه، وأبوه بالموحدة وتثقيل المعجمة بلا خلاف. وليس في الصحيحين بهذه الصورة غيره قاله أبو على الجياني وجماعة بعده، وغفل بعض المتأخرين فضبطه بمثناة وسين مهملة، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به فإنه لا يخفي على من له أدنى ممارسة في هذا الشأن. قوله: (مخول) بكسر أوله وإسكان المعجمة وبوزن محمد أيضا، وهذان الوجهان في رواية أبي ذر، والأول للأكثر، والثاني لابن عساكر، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ومحمد بن علي شيخه هو أبو جعفر المعروف بالباقر. قوله: (يفرغ) بضم أوله. قوله: (ثلاثا) أي غرفات. زاد الإسماعيلي " قال شعبة: أظنه من غسل الجنابة " وفيه " وقال رجل من بني هاشم: إن شعري كثير، فقال جابر: شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر من شعرك وأطيب". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَامٍ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ لِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَتَانِي ابْنُ عَمِّكَ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ كَيْفَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ فَقَالَ لِي الْحَسَنُ إِنِّي رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْكَ شَعَرًا الشرح: قوله: (حدثنا معمر) بإسكان العين في أكثر الروايات وبه جزم المزي. وفي رواية القابسي بوزن محمد وبه جزم الحاكم، وليس له أيضا في البخاري غير هذا الحديث، وقد ينسب إلى جده سام فيقال معمر ابن سام وهو بالمهملة وتخفيف الميم. قوله: (ابن عمك) فيه تجوز، فإنه ابن عم والده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والحنفية كانت زوج علي بن أبي طالب تزوجها بعد فاطمة رضي الله عنها فولدت له محمدا فاشتهر بالنسبة إليها. وقول جابر " أتاني " يشعر بأن سؤال الحسن بن محمد كان في غيبة أبي جعفر فهو غير سؤال أبي جعفر الذي تقدم في الباب قبله، لأن ذلك كان عن الكمية كما أشعر بذلك قوله في الجواب " يكفيك صاع " وهذا عن الكيفية وهو ظاهر من قوله " كيف الغسل"، ولكن الحسن بن محمد في المسألتين جميعا هو المنازع لجابر في ذلك فقال في جواب الكمية " ما يكفيني " أي الصاع ولم يعلل. وقال في جواب الكيفية " إني كثير الشعر " أي فأحتاج إلى أكثر من ثلاث غرفات، فقال له جابر في جواب الكيفية " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر شعرا منك وأطيب " أي واكتفى بالثلاث فاقتضى أن الإنقاء يحصل بها. وقال في جواب الكمية ما تقدم، وناسب ذكر الخيرية لأن طلب الازدياد من الماء يلحظ فيه التحري في إيصال الماء إلى جميع الجسد، وكان صلى الله عليه وسلم سيد الورعين وأتقى الناس لله وأعلمهم به. وقد اكتفى بالصاع، فأشار جابر إلى أن الزيادة على ما اكتفى به تنطع قد يكون مثاره الوسوسة فلا يلتفت إليه. قوله: (ثلاث أكف) وفي رواية كريمة " ثلاثة أكف " وهي جمع كف والكف تذكر وتؤنث، والمراد أنه يأخذ في كل مرة كفين، ويدل على ذلك رواية إسحاق بن راهويه من طريق الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد عن أبيه قال في آخر الحديث " وبسط يديه"، ويؤيده حديث جبير بن مطعم الذي في أول الباب، والكف اسم جنس فيحمل على الاثنين، ويحتمل أن تكون هذه الغرفات الثلاث للتكرار، ويحتمل أن يكون لكل جهة من الرأس غرفة كما سيأتي في حديث القاسم بن محمد عن عائشة قريبا. *3* الشرح: قوله (باب الغسل مرة واحدة) قال ابن بطال يستفاد ذلك من قوله " ثم أفاض على جسده " لأنه لم يقيد بعدد فيحمل على أقل ما يسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِلْغُسْلِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد، وباقي الإسناد والمتن تقدم في باب الوضوء قبل الغسل. قوله في هذه الرواية (فغسل يده) ، وللكشميهني " يديه " (مرتين أو ثلاثا) الشك من الأعمش كما سيأتي من رواية أبي عوانة عنه، وغفل الكرماني فقال: الشك من ميمونة. قوله: (مذاكيره) هو جمع ذكر على غير قياس، وقيل واحده مذكار، وكأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى، قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقيل واحده مذكار. وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس في الجسد إلا واحد بالنظر إلى ما يتصل به، وأطلق على الكل اسمه فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في حكم الغسل.
|